في قلب مدينة البندقية، وبين أزقتها المائية وتفاصيلها التاريخية، يتحوّل كل شيء فجأة إلى عرض فني حي. إنها ليست مجرد مدينة إيطالية حالمة، بل مسرح عالمي ينبض بالإبداع والخيال والانفتاح. وبينالي البندقية لعام 2025 لا يُشبه أي نسخة سابقة، بل يعكس واقعًا إنسانيًا يعيش صراعًا بين الطبيعة والآلة، وبين الإنسان والعالم من حوله، بأسلوب جريء يخرج الفن من الإطار إلى الحياة.
بدأت فعاليات بينالي 2025 بأجواء مختلفة، وكأن المدينة قررت أن تصرخ بدلًا من أن تهمس. انطلقت عروض العمارة في مايو، لكنها لم تكن مجرد تصاميم جميلة، بل دعوة جادة للاستدامة، حيث كانت الرسائل صريحة وصادمة في بعض الأحيان. سبقتها احتفالات الأطفال في فبراير، والتي أعادت التأكيد على أن الخيال لا ينتظر النضج. وفي يونيو، غزا المسرح أزقة المدينة بعروض عبثية، تركت الجمهور حائرًا، متأثرًا، لكنه مأخوذ بروعة ما شاهد. كل حدث حمل نبضًا جديدًا، وكأن البندقية تعيد تعريف معنى التفاعل الفني في العصر الحديث.
إذا كنت تظن أن البينالي قدّم كل ما لديه، فأنت لم ترَ شيئًا بعد. فشهر يوليو انطلق برقص معاصر يعالج قضايا مثل القوة والإرهاق العاطفي، بأساليب حركية غير تقليدية. ومع اقتراب نهاية أغسطس، يبدأ مهرجان البندقية السينمائي الذي يُعد محطة ثابتة لعشّاق الفن السابع، لكنه دائمًا ما يفاجئ بجديده. أما أكتوبر، فهو موعد مع الموسيقى المعاصرة، حيث تُختبر آذان الزوّار بأصوات لم يعرفوا من قبل أن الإنسان أو الآلة قادران على إنتاجها. ما يحدث في البندقية هذه الأشهر ليس عرضًا فنيًا فقط، بل تجربة كاملة تُحفر في الذاكرة.
هذا الحدث ليس للمجاملات البصرية. كل زاوية، كل عمل فني، كل صالة عرض تصرخ بقضية. التغير المناخي، اللجوء، عدم المساواة، كلها مواضيع حاضرة بقوة. جناح آيسلندا مثلاً حوّل ثورات البراكين إلى استعارة بصرية عن إعادة الولادة المستدامة. لا شيء هنا يُقدّم بلُطف، فالفنانون قرروا أن يجعلوا المشاهدين غير مرتاحين عمدًا. ليس بهدف الإزعاج، بل لدفعك إلى التفكير العميق، إلى الشعور، وربما إلى مواجهة uncomfortable truths لا نحب عادة الحديث عنها.
الذكاء الاصطناعي خرج من الشاشات ودخل صالات العرض، لا كأداة بل كشريك في الإبداع. هناك أعمال فنية تتجاوب مع صوتك، وأخرى تطلب منك أن تتحرك أو أن تتكلم لتكتمل. لم يعد الفن هنا شيئًا تتفرج عليه فقط، بل تجربة تشارك فيها بكامل حواسك. التقنية لم تسرق سحر الفن، بل أعادت تشكيله، وأضافت له بعدًا جديدًا فيه كثير من الغرابة، وكثير من المتعة. بينالي هذا العام هو ملعب مفتوح، فيه كل شيء متاح، وكل مشاركة تُعيد صياغة التجربة من جديد.
لأن العالم كله حضر. من أمريكا الجنوبية التي مزجت الغابات الاستوائية مع العمارة، إلى الولايات المتحدة التي أعادت التفكير في "البلكونة" كمكان للحميمية العامة، كل جناح ينطق بلغة مختلفة، لكن الرسالة النهائية مفهومة للجميع. وكأن البندقية أصبحت هي اللغة المشتركة. رغم الانقسامات التي يعيشها العالم، يقدم البينالي هذا العام فرصة نادرة للقاء والتفاهم والتعبير الجماعي. وكأن الفن، ولو للحظات، قادر على جمع الكل في مساحة واحدة من الإبداع والإنسانية.