في نسخة هذا العام من مهرجان سالزبورغ، لم تكن العروض الفنية مجرد رحلة ثقافية ممتعة، بل أشبه ما تكون بتجربة مواجهة مع العالم كما هو. فالمهرجان الذي يُعد من أعرق وأهم الأحداث الفنية في أوروبا، قرر عام 2025 أن يخرج من عباءة التقاليد ليلامس قلب الأزمات العالمية، مقدمًا عروضًا جريئة تخاطب الحاضر أكثر مما تستحضر الماضي. السياسة، الحروب، سقوط القادة، والبحث عن المعنى في عالم يتغير بسرعة كانت محاور حاضرة بقوة، ولكن بلغة الفن والمسرح لا عبر نشرات الأخبار.
اختار مهرجان سالزبورغ هذا العام أن يواكب الواقع بدلًا من الهروب منه، مستجيبًا للأحداث العالمية التي طغت على المشهد في السنوات الأخيرة. المدير الفني ماركوس هينترهاوزر قاد برنامجًا يستند إلى فكرة أن المسرح لا يجب أن يكون منفصلًا عن حياة الناس. عروض مثل Macbeth وGiulio Cesare in Egitto وMaria Stuarda لم تطرح فقط شخصيات تاريخية مألوفة، بل قدمتها كأمثلة حيّة لانهيارات السلطة، وتقلبات المصير، والصراعات التي تحاكي ما نعيشه اليوم. هذه العروض لم تحاول تجميل الواقع، بل عرضته كما هو: صعب، معقّد، لكنه يستحق أن يُرى ويُناقش.
وراء الأزياء الفخمة واللهجات القديمة، تطرح هذه العروض أسئلة عميقة عن السلطة، والطموح، والانهيار. شخصياتها ليست بعيدة عن واقعنا: قادة ينهارون أمام مسؤولياتهم، وقرارات شخصية تنتهي بكوارث جماعية. من خلال متابعة هذه القصص على الخشبة، يدرك المشاهد أن التاريخ لا يعيد نفسه فقط، بل ينعكس يوميًا في نشرات الأخبار وخلف الكواليس السياسية. المسرح هنا يصبح أداة لفهم البشر والسلطة، ولطرح تساؤلات عن مكاننا كمجتمعات في خضم عالم متقلب.
رغم كل هذه الانعطافات الجريئة، لم يبتعد المهرجان عن تاريخه العريق. العرض الأيقوني Jedermann استمر في موقعه المعتاد أمام كاتدرائية سالزبورغ، محافظًا على وهجه وجمهوره. لكن إلى جانبه، ظهرت أعمال جديدة مثل The Blizzard من إخراج كيريل سيريبيرنيكوف، والتي قلبت المعايير التقليدية للمسرح. كما جمعت إحدى العروض بين موسيقى شونبرغ وماهلر، في توليفة فنية جمعت الكلاسيكية والحداثة معًا. هذا التوازن بين الأصالة والتجديد هو ما يمنح المهرجان خصوصيته، ويجعله قادرًا على الاستمرار والدهشة في آن واحد.
وجود فنانين روس في البرنامج كان كافيًا لخلق موجة من الجدل، رغم أن كثيرًا منهم اتخذ مواقف علنية ضد النظام السياسي في بلادهم. ومع ذلك، لم يتجاهل المهرجان أصواتًا أخرى، بل فتح المجال لمشاركات أوكرانية مثل الشاعرة ماريانا كيانوفسكا. هذه التركيبة المتنوعة عكست تعقيد المشهد الفني في زمن الحرب، وجعلت من المهرجان مساحة مفتوحة للنقاش، لا للرقابة أو الإقصاء. الفن هنا لم يكن حياديًا ولا مباشرًا، بل جاء حاملاً لتناقضات العالم كما هي، ما جعله أكثر صدقًا وأثرًا.
رغم قدمه، بدا مهرجان سالزبورغ هذا العام كأنه وُلد من جديد، لا ليروي حكايات الماضي، بل ليحاكي واقعًا يتغير بسرعة مذهلة. بدلًا من أن يقدم عزلة مؤقتة عن العالم، قدّم نوعًا من المواجهة الفنية التي تتيح للمتفرج أن يرى نفسه والآخرين بوضوح. المسرح لم يكن مجرد ترفيه، بل أداة للتفكير والتأمل وحتى الشجاعة. ربما لهذا السبب، لا يزال هذا المهرجان يجد لنفسه مكانة خاصة في كل زمن مضطرب. لأنه ببساطة لا يكتفي بنقل الحكاية، بل يهمس في أذنك: افهم العالم من جديد.